
تزامناً مع المشروع الذي بدأتُه في شأن (إعادة قراءة كلام الإمامية في مدرسة بغداد)، كان لابدّ وأن أعيد قراءة ومطالعة الكتب الكلامية لأعلام هذه المدرسة المشهورين بدقّة، ومن بينهم الشيخ المفيد (ت 413هـ)؛ الشريف المرتضىٰ (ت 436هـ)؛ الشيخ الطوسي (ت 460هـ). إنّ أوّل ما لفت انتباهي عند إعادة قراءتي لمصنّفات هؤلاء الأعلام هي التحقيقات السريعة والطبعات غير المنقّحة والخاطئة لهذه الكتب، وأحد تلك الكتب التي نخصّها بالذكر في مقالنا هذا هو كتاب (الذخيرة) للشريف المرتضىٰ، ففي الحقيقة إنّ تقديم مثل هذه الكتب من أمثال هؤلاء العظماء ونشرها بهذه الطريقة الخاطئة والمزرية ممّا يندىٰ له الجبين. وقد يتسائل البعض: ما هي أهمّية الاطّلاع الدقيق علىٰ أفكار أعلام طائفتنا بصفتهم أهمّ وأوّل مؤسّسي المدرسة الكلامية الفلسفية في الطائفة الشيعية؟ ومدىٰ القصور أو التقصير من قبل الحوزات العلمية والجامعات ـ علىٰ حدٍّ سواء ـ في هذا الخصوص؟ إلّا أنّ ذلك ليس هو موضوع بحثنا حاليّاً في هذا المقال، ولابدّ من تبيينه مفصّلاً في مجال آخر. وما أروم إليه في هذا المقال هو الضرورة الماسّة للقيام بعمل تحقيقي جديد مرّة أخرىٰ وبطريقة علمية ودقيقة للكتب الكلامية لهذه المدرسة، وأن أذكّر في البين بأمر بديهي تقريباً وقد غفل عنه المحقّقون عند تحقيقهم لهذه الكتب.
في الواقع إنّ أوّل معضلة كبيرة يواجهها الباحث في النصوص الكلامية الإمامية لمدرسة بغداد ـ بل في سائر نصوصنا الفلسفية والكلامية ـ هو ما يجده أمامه من كتب كلامية لم يتمّ تحقيقها ونشرها بطريقة علمية دقيقة، وسوف يواجه الكثير من العبارات الغامضة وغير المفهومة نتيجة لذلك، وبغضّ النظر عن التعقيد في المفاهيم والاصطلاحات التي هي من خصائص ذلك العصر وتلك المدرسة الكلامية العظيمة ـ الذي زاد في صعوبة فهم القارئ لمثل هذه الأسلوب من التأليف ـ فإنّ التحقيقات المليئة بالأخطاء وعدم الدقّة في تحقيق هذه النصوص زاد في الطين بلّة وساهم في صعوبة القيام بتحقيق جديد ودقيق في هذا المجال. وبعيداً عن المبالغة فإنّ أكثر الكتب الكلامية للمدرسة الإمامية تقريباً ـ من رسائل الشيخ المفيد؛ والملخّص والذخيرة للسيّد المرتضىٰ، والعديد من رسائله الكلامية؛ وكذلك تمهيد الأصول والاقتصاد للشيخ الطوسي؛ وتقريب المعارف لأبي الصّلاح الحلبي؛ والمنقذ من التقليد لسديد الدين الحِمَّصي الرازي؛ وغيرها من الكتب ـ قد تمّ نشرها مربكة وباستعجال وتفتقر إلىٰ الدقّة اللازمة في تحقيق وطباعة مثل هذه النصوص.
إنّ الأضرار التي خلّفتها تلك التحقيقات غير الدقيقة، وكذلك العلل الكثيرة والمختلفة التي ساهمت في تقديم مثل هذه التحقيقات غير اللائقة، يستدعي دراسة ومقالاً مستقلّا ً، ولكنّ ما يجدر الإشارة إليه هنا هو أنّ هناك معضلات في تحقيق جميع النصوص بشكل عامّ، ولكنّ المعضل الأساسي يكمن في خصوص تحقيق النصوص الكلامية لمدرسة بغداد.
أوّلاً وقبل كلّ شيء؛ للأسف أنّ مهنة تحقيق النصوص في بلادنا لا تعتبر عملاً تخصّصيّاً وخاضعاً للضوابط، ونتيجة لذلك يبدو أنّ كلّ مَن أراد أن يقوم بتحقيق النصوص يرىٰ أنّه مؤهّل للقيام بذلك مهما كانت خلفيّته ورصيده العلمي، وأنّه يستطيع أن يقوم بتحقيق كلّ نصّ يحلو له وأن يقوم بنشره، وليس بقليل أمثال هؤلاء ـ ممّن لابدّ وأن نسمّيهم بالأعاظم!!! ـ ممّن لم يقتصروا علىٰ التحقيق في مجال وتخصّص معيّن، حيث يتناولون النصّ التاريخي والنصّ الكلامي، بل ويتناولون بالتحقيق الكتاب التفسيري والحديثي أيضاً، كما أنّهم لم يجعلوا الكتب الأدبية والرجالية والفقهية أيضاً محرومة من أن يكون لها نصيب من تحقيقاتهم العظيمة!!! وإذا تسنّىٰ لهم تحقيق النصوص الأصولية والعرفانية والطبّية والفلكية والرياضية والعلوم الغريبة ما تركوا تحقيقها، والعجيب في الأمر إنّ الآخرين أيضاً يفتخرون بما يقدّمه هؤلاء. ومن المحتمل أنّ هؤلاء الأعاظم يعلمون بأنّ تحقيق النصوص يحتاج إلىٰ الخبرة والتخصّص في ذلك العلم، وأنّ مثل هذه المؤهّلات لا تتوفّر عند كلّ شخص بحيث تمكّنه من تحقيق أيّ نصّ كان، ولكنّ الأمر الذي لم يلتفتوا إليه هو أنّ كلّ ما لديهم من علوم ومهارات هي علوم ومهارات محدودة ولا يمكنهم الإلمام بجميع هذه العلوم الواسعة النطاق بالرغم من الفضيلة العلمية التي لديهم. ومن جانب آخر نرىٰ أنّ هؤلاء الأشخاص ـ الذين لا يتوفّر لديهم الحدّ الأدنىٰ من الخبرة العلمية التخصّصية اللازمة لتحقيق النصوص ـ لا يصرفون وقتاً كافياً وجهداً لازماً للتدقيق والبحث العلمي الضروري لإنجاز ذلك التحقيق؛ ومن الطبيعي أن تكون نتيجة عمل أمثال هؤلاء المحقّقين هو تقديم تحقيق مربك وغير دقيق للكتاب، ولا يكون تحقيقاً مفيداً للقارئ. وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإنّ مثل هذا العمل قد يؤدّي إلىٰ عدم تحقيق الكتاب من جديد من قبل الأشخاص المؤهّلين لتحقيقه ونشره، فقد يؤدّي التحقيق الخاطئ والمصحّف لهذا المحقّق سبباً أساسيّاً لترك الكتاب وهجره في نهاية المطاف، بدلاً من نفض الغبار عنه ليرىٰ النور. والكلام في هذا الباب كثير ولكن يضيق بنا المجال هنا، وهناك أمر لا يختلف فيه أحد؛ وهو إذا لم يتمّ التأكيد علىٰ النقد والتقييم الجادَّين الخاليَين من المجاملات والتعارفات في الأعمال التحقيقية، فإنّ تلك المشكلة والمعضلة سوف تبقىٰ قائمة.
أمّا المعضلة الأساسية التي لابدّ لنا أن نتكلّم عنها بنحو خاصّ في باب النصوص الكلامية لمدرسة بغداد هي عبارة عن فقدان العديد من النسخ وخصوصاً المعتبرة منها؛ ففي الحقيقة أنّ الكثير من النصوص الكلامية لهذه المدرسة لم يتبقَّ منها شيء من النسخ الخطّية يعتنىٰ بها سوىٰ نسخ معدودة ومحدودة، وأغلبها متأخّرة ومليئة بالأخطاء التي لا تعدّ ولا تحصىٰ. وأنّ أغلب هذه النصوص لا يتوفّر منها اليوم أكثر من نسخة واحدة، أو فيما إذا كان لها عدّة نسخ فهي عادة تعود إلىٰ نسخة أصلية أساسية، وبالنتيجة فإنّ المحقّق حينها لابدّ له أن يتمّ عمله اعتماداً علىٰ نسخة واحدة.
وسيطول بنا المقام إذا أردنا أن نبيّن ونشرح أسباب فقدان النسخ المعتبرة من مؤلّفات مدرسة بغداد، ولكن يمكننا أن نقول باختصار: أنّه تزامناً مع الإبادة التي قام بها المغول باجتياحهم بغداد والتي طالت الثقافة كذلك وأدّت إلىٰ دمار وتلف الكثير من النسخ الخطّية التي تعود إلىٰ الفترات المبكّرة من التاريخ الإسلامي، مضافاً إلىٰ تأسيس مدرسة جديدة للكلام الفلسفي من قبل الخواجة نصير الدين الطوسي (ت 672هـ) في المذهب الإمامي، كلّ ذلك أدّىٰ إلىٰ نأي كثير من المتكلّمين فيما بعد عن مؤلّفات مدرسة بغداد الكلامية، وتوجّههم إلىٰ النصوص الجديدة المرتبطة بالكلام الفلسفي، وبالنتيجة فقد قلّ تداول واستنساخ كتب مدرسة بغداد الكلامية شيئاً فشيئاً، ولم يتبقَّ أثر من تلك الكتب القيّمة سوىٰ بعض النسخ المعدودة وأغلبها ناقصة.
بناء علىٰ هذا إذا أردنا أن نعدّ باختصار أهمّ العوامل التي ساهمت في تقديم تحقيقات غير دقيقة وغير معتبرة لمؤلّفات مدرسة بغداد الكلامية فلابدّ لنا من الإشارة إلىٰ هذين العاملين:
العامل الأوّل: تساهل محقّقي هذه المؤلّفات وعدم تخصّصهم بالأبحاث الكلامية.
العامل الثاني: عدم وجود النسخ المعتبرة والمتعدّدة من تلك المؤلّفات.
فيما يخصّ العامل الأوّل: فإنّ الحلّ لذلك هو ما ذكرناه آنفاً؛ أي: الترويج والتأكيد علىٰ النقد الجادّ وعدم المجاملة في نقد مثل هذه الأعمال التحقيقية غير الدقيقة التي يقوم بها أشخاص غير أكفّاء أو من ذوي الكفاءات القليلة. ومن الطبيعي أنّه لابدّ للمحقّقين من ذوي الخبرة ـ أوّلاً وقبل كلّ شيء ـ من دراسة هذه النصوص ومطالعتها بدقّة لتتّضح لهم النواقص الموجودة فيها ثمّ يقومون بعد ذلك بنقدها وتقييمها، ولكن مع الأسف الشديد فإنّ مثل هذه التحقيقات قلّما تخضع للدراسة والتدقيق من قبل المحقّقين من ذوي الخبرة، وكان من نتيجة ذلك أنّه قلّما تظهر وتتّضح الأخطاء الموجودة فيها، بل وإذا حالف الحظّ تلك التحقيقات لتطبع مرّة أخرىٰ فغالباً ما يتمّ طباعتها ثانية بنفس تلك الأخطاء السابقة، من دون إجراء أيّ تصحيح عليها، وفي بعض الأحيان يتمّ إعادة تنضيد الحروف من جديد ممّا يزيد في الطين بلّة ويضيف مزيداً من الأخطاء علىٰ الكتاب!
وأمّا فيما يخصّ العامل الثاني: فأودّ أن أشير إلىٰ طريقة حلٍّ بسيطة وواضحة جدّاً، ولكن للأسف أنّه غالباً لا يُلتفت إليها؛ فالأشخاص الذين تعاملوا مع النصوص الكلامية لمدرسة بغداد وقاموا بالمقارنة بينها ـ ولو مقارنة عابرة ـ أدركوا بكلّ بساطة أنّ كتب هذه المدرسة متشابهة جدّاً مع بعضها البعض من حيث الترتيب والمحتوىٰ. وبالطبع فإنّ هذا التشابه الكبير في صياغة العبارات والترتيب والمحتوىٰ عادة ما نلاحظه في النصوص المرتبطة بمدرسة كلامية معيّنة ـ أو منظومة كلامية معينة ( ) ـ وهذا الأمر لا ينفرد به علم الكلام ولا مدرسة بغداد الإمامية، بل يمكن أن نلاحظه كذلك في سائر العلوم والمدارس الأخرىٰ. القضية واضحة جدّاً؛ ففي كلّ مدرسة كلامية كان هناك واحد أو أكثر من المفكّرين المبتكرين الذين وضعوا أسس تلك المدرسة وأسّسوا لتلك المدرسة الكلامية بنيانها، وقام أتباعهم من بعدهم بتكرار أطروحاتهم مع تغيير طفيف، وهذا الأمر ينطبق كذلك علىٰ مدرسة بغداد الإمامية، فبمجرّد أن نتناول النصوص المرتبطة بهذه المدرسة في موضوع واحد ونطالعها بصورة تطبيقية، سرعان ما يتّضح لنا حينها مدىٰ التشابه فيما بينها.
ففيما يخصّ مدرسة بغداد الكلامية فإنّ الشيخ المفيد والشريف المرتضىٰ يعتبران من مؤسّسي هذه المدرسة، وأنّ تلامذتهما ـ من الشيخ الطوسي إلىٰ أبي الصلاح الحلبي، بل والكثير غيرهم ـ هم مقلّدون وأتباع لهم. وعلىٰ الرغم من وجود اختلاف واضح بين المنهج الفكري للسيّد المرتضىٰ والشيخ المفيد، إلّا أنّه يمكن مشاهدة العديد من القواسم المشتركة بين أفكارهم، وكذلك أيضاً نرىٰ هناك تشابهات كثيرة من حيث صياغة العبارات والترتيب والمحتوىٰ بين كتب سائر المتكلّمين ممّن ذكرناهم علىٰ الرغم من وجود الاختلافات الفكرية فيما بينهم. ومن خلال دراسة الكتب المتوفّرة لدينا حاليّاً من مدرسة بغداد الكلامية الإمامية نستطيع أن نتوصّل إلىٰ أنّ الشريف المرتضىٰ في مدرسة بغداد الكلامية نسبة إلىٰ سائر المتكلّمين كان له الدور البارز في إيجاد الأسس الفكرية لهذه المدرسة. وفي الواقع أنّ تلامذة الشريف المرتضىٰ قاموا بتكرار نفس عباراته في أغلب المواضع من كتبهم مع تغيير طفيف فيها.
وبناء علىٰ ذلك لابدّ لنا أن نعتبر كتاب الملخّص وتتمّته، أي: الذخيرة للسيّد المرتضىٰ هي المصدر الأمّ للكتب التي تلتها في هذه المدرسة، وأمّا الكتب الكلامية لأتباعه مثل: تمهيد الأصول والاقتصاد للشيخ الطوسي، وتقريب المعارف والكافي في التكليف لأبي الصلاح الحلبي، وغنية النزوع لابن زهرة الحلبي، لابدّ من اعتبارها من سلالة كتب الشريف المرتضىٰ وعيال عليها. علماً بأنّنا إذا نظرنا إلىٰ جميع هذه الكتب بضمّ بعضها إلىٰ بعض سوف نرىٰ أنّها بمثابة منظومة فكرية كلامية واحدة لما لها من أوجه الشبه الكثيرة في صياغة العبارات والترتيب والمحتوىٰ، وأنّ أوجه الشبه بينها لا تعدّ ولا تحصىٰ، وإنّ كثرة تشابه العبارات في هذه الكتب بلغت حدّاً بحيث يمكن من خلالها الاستعانة بها للوصول إلىٰ العبارات الناقصة وغير الواضحة المماثلة لها في سائر الكتب والنصوص التي هي من نفس المدرسة الكلامية. ولا يخفىٰ أنّ مصنّفات الشريف المرتضىٰ تتشابه في الكثير من المواضع مع مصنّفات القاضي عبد الجبّار المعتزلي وسائر متكلّمي البهشمية وهي قريبة منها، ولذلك فمن الضروري مراجعة تلك الكتب ـ بل لابدّ من مراجعتها ـ لكي يتّضح لنا كلام الشريف المرتضىٰ بنحو أفضل.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هو ترىٰ ألا يمكن الاستفادة من هذا التشابه والتقارب الكبير للغاية الموجود بين العبارات في هذه النصوص التي تنتمي إلىٰ منظومة كلامية واحدة لتصحيح عبارات بعضها من خلال عبارات البعض الآخر منها؟ من الواضح أنّه من الممكن بسهولة القيام بذلك؛ حيث يمكننا الاستفادة من الكتب الأخرىٰ التي تنتمي إلىٰ نفس تلك المنظومة الكلامية باعتبارها نسخاً مساعدة لتصحيح تلك النصوص بعضها لبعض، علىٰ الأقلّ في الموارد التي تكون العبارة في النسخة الأصلية مغلوطة أو مبهمة لاتؤدّي المعنىٰ، خصوصاً مع عدم وجود أيّ نسخة أخرىٰ لدينا من نفس الكتاب نستعين بها، حينها يمكننا مراجعة العبارات المماثلة لها في سائر النصوص من نفس تلك المنظومة الكلامية لتصحيح العبارة الخاطئة، وذلك كطريقة حلّ لهذه المشكلة باعتبارها مصادر مناسبة لمثل هذا التصحيح. علماً بأنّ تصحيح الكلمات والعبارات في النصوص اعتماداً علىٰ سائر النصوص المماثلة لها لا يلزم منه بالضرورة أن يكون طريقاً يقينيّاً للوصول إلىٰ الكلمة أو العبارة المكتوبة من قبل المؤلّف في النصّ الأصلي، ولكن بالرغم من ذلك نرىٰ أنّ هذه الطريقة ـ مهما كانت ـ هي أفضل من تقديم كلمات وعبارات متراكمة ومبهمة تزيد في تعقيد فهم النصّ، خصوصاً مع احتمال أن تكون هذه الطريقة مقرونة بالصواب إلىٰ حدّ كبير عادة.
ولابدّ لنا هنا من أجل أن نبيّن عمليّاً مدىٰ نجاح هذه الطريقة السهلة، وكم يمكن لها أن تكون حلّا ً مؤثّراً في تصحيح النصوص نأخذ ـ علىٰ سبيل المثال ـ باباً من كتاب الذخيرة للسيّد المرتضىٰ ونقوم بمقارنته مع فصل مماثل له من كتاب تمهيد الأصول للشيخ الطوسي الذي يعتبر من نفس المنظومة الكلامية، ونقوم بتصحيح الأخطاء الموجودة فيه بالاستعانة بعبارات تمهيد الأصول؛ فإنّ هذا الأنموذج سوف يبيّن معدّل الأخطاء الموجودة في التحقيق الذي طُبع من كتاب الذخيرة للسيّد المرتضىٰ، كما يبيّن عمليّاً مدىٰ نجاح هذه الطريقة المقترحة لتصحيح النصوص عند تحقيقها.
كتاب تمهيد الأصول الذي هو من إملاء شيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت 460هـ) هو في الواقع شرح القسم النظري من الرسالة الكلامية الفقهية لأستاذه الشريف المرتضىٰ (ت 436هـ) التي جاءت تحت عنوان: (جُمَل العلم والعمل)، فقد تطرّق الشيخ الطوسي في هذا الكتاب إلىٰ شرح عبارات الشريف المرتضىٰ، وبالطبع فإنّه بين الفينة والأخرىٰ كان يبيّن مواقفه وآراءه الشخصية كذلك. فبمجرّد المقارنة العابرة يمكننا أن ندرك أنّ العديد من عبارات الشيخ في هذا الكتاب مأخوذة من عبارات أستاذه الشريف المرتضىٰ، أو بتعبير أدقّ هي استنساخ محض لما أتىٰ به الشريف المرتضىٰ في كتبه، لا سيّما في كتابيه (الملخّص) و(الذخيرة).
علماً بأنّ كتاب تمهيد الأصول القيّم كان قد طبع مرّة في سنة (1362هـ ش) بشكل غير لائق ـ مثله مثل سائر النصوص الكلامية الأخرىٰ التي أنجزت بتحقيق غير صحيح ـ بواسطة الدكتور عبد المحسن مشكوة الديني، وقد طبع بواسطة انتشارات جامعة طهران، ولم يطبع ويحقّق هذا الكتاب بعد ذلك أبداً؛ وذلك يعكس لنا الإقبال والاهتمام الكبير الذي يوليه باحثونا لمثل هذه الأعمال، مع الأسف الشديد!!! وقد ارتأيت في السنين الأخيرة أنّه من الواجب عليّ أن أقوم بتحقيق جديد لكتاب تمهيد الأصول، وبالفعل فقد بدأت بذلك وأرجو من الله أن يوفّقني لإتمامه. وأمّا الكتاب القيّم الذخيرة الذي هو من إملاء الشريف المرتضىٰ فقد تمّ نشره للمرّة الأولىٰ سنة (1411هـ)، ومن ثمّ تمّت طباعته للمرّة الثالثة في سنة (1431هـ) من قبل مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة إلىٰ جامعة المدرّسین في الحوزة العلمیة في قم، وقد تمّ تصحيح وتحقيق هذا الكتاب من قبل أحد الأعلام البارزين في مجال تحقيق وطباعة ونشر النصوص الإسلامية وهو السيّد أحمد الحسيني الإشكوري.
إنّ القسم الذي سوف نقوم بدراسته ونقده في هذا المقال من حيث تصحيح النصّ في التحقيق المطبوع من الذخيرة هو الفصل الذي يرتبط بباب: (الكلام في المعارف والنظر وأحكامها وما يتعلّق بهما) من هذا الكتاب؛ ابتداء من الصفحة (154) وانتهاء بالصفحة (185) من هذه الطبعة. والسبب في اختيار هذا الفصل دون غيره هو فقط من أجل تقدّم موضوع (النظر) بالنسبة إلىٰ سائر المواضيع الكلامية في نصوص متكلّمي بغداد؛ وذلك لأنّ تأليف أكثر الكتب في هذه المدرسة الكلامية يبدأ بالتحقيق في الموضوع المذكور. علماً بأنّني لم أنتهِ بعد من دراسة سائر فصول هذا الكتاب بدقّة، ولكن سوف يتّضح للقرّاء الكرام من خلال دراسة هذا الفصل وكمّية الأخطاء الموجودة في هذه الصفحات ـ التي بلغت ثلاثين صفحة تقريباً ـ حال سائر الفصول الأخرىٰ من الكتاب، ومقدار الأخطاء المحتملة فيها.
ونلفت نظر القارئ الكريم بأنّ ما نفترضه هنا هو أنّ المحقّق المحترم لكتاب الذخيرة له قراءة وفهم صحيح للعبارات الموجودة في النسخ التي كان قد استفاد منها في تحقيقه، وأنّ الأخطاء الموجودة في الطبعة المحقّقة إنّما هو ناشئ من الأخطاء التي ارتكبها كتبة النسخ، مضافاً إلىٰ بقيّة الأخطاء الأخرىٰ الموجودة فيها؛ أي: افترضنا أنّ المحقّق أورد في تحقيقه كلّما تمّ ثبته في النسخ بشكل دقيق، لذلك فالتصحيفات الموجودة قد تسلّلت كلّها إلىٰ هذه الطبعة من نفس النسخ الخطّية المتبقّية من الكتاب نتيجة للأخطاء الموجودة فيهما، وقد أشار محقّق الكتاب في مقدّمته إلىٰ ذلك حيث ذكر وجود العديد من الأخطاء في كلا النسختين 1
الذخیرة: 63ـ64. لايخفىٰ أنّه تمّت كتابة هاتين النسختين من علىٰ نسخة أصل واحدة، وبالتالي لا يمكن اعتبارهما نسختين مستقلّتين..
وسنشير فيما يلي إلىٰ عدّة موارد كنماذج من هذه الأخطاء والعثرات الموجودة في هذه الطبعة من تحقيق الذخيرة، وسوف نستعرض بقيّة الأخطاء بنحو مختصر ضمن جدول يأتي لاحقاً.
الأنموذج الأوّل: في (الصفحة 154) من الذخيرة (في الفقرة الثانية؛ في السطر الأوّل إلىٰ الثالث منها) جاء فيها ما يلي:
«والذي يدلّ علىٰ أنّ العلم من قبيل الاعتقاد، لو لم يكن كذلك لجاز أن يكون عالماً وإن لم يكن معتقداً له مع سكون النفس، ولا يكون عالماً ومعلوم فساد ذلك».
فقد جرىٰ البحث هنا علىٰ أنّ: هل العلم من جنس الاعتقاد أم لا؟ فالشريف المرتضىٰ يعتقد أنّ العلم من جنس الاعتقاد؛ ولكن مع الالتفات إلىٰ الاستدلال الذي ذكره في بحثه عندما قال: «لو لم يكن كذلك لجاز أن يكون عالماً وإن لم يكن معتقداً له مع سكون النفس، ولا يكون عالماً». فما مراده من هذه العبارة؟! وكيف يتمّ ربط عبارة: «مع سكون النفس» بما قبلها وبما بعدها ليستقيم النصّ ويفهم المعنى؟!
والآن فلنلاحظ العبارة المشابهة لها في تمهيد الأصول: «والعلم من قبيل الاعتقاد، بدلالة أنّه لو لم يكن كذلك لجاز أن يكون عالماً وإن لم يكن معتقداً، أو یكون معتقداً له مع سكون النفس، ولا يكون عالماً ومعلوم فساد ذلك»2
تمهید الأصول: 190.
بمقارنة هاتين العبارتين في الذخيرة والتمهيد، يبدو من المحتمل أنّه في نصّ الذخيرة قد سقطت عبارة: «أو یكون معتقداً له» التي هي شاهد علىٰ جانب آخر من الاستدلال الذي أراده الشريف المرتضىٰ؛ إذ بدونها لا معنىٰ للعبارة المذكورة.
ففي الواقع أنّ استدلال الشريف المرتضىٰ يمكن تلخيصه بما يلي: (إذا لم يكن العلم من جنس الاعتقاد، حينها يجوز للشخص العالم بالشيء أن لا يكون معتقداً به، أو يكون معتقداً به ويحصل له سكون النفس ولكن لا يكون عالماً به؛ في حين أنّ مثل هذا لا يجوز ومعلوم فساده).
ومن الواضح أنّ وجود عبارة: «أویكون معتقداً له» هنا كم هو مؤثّر في توضيح وتكميل الاستدلال، ومن دونها سوف تكون العبارة المذكورة لا مفهوم لها، فلابدّ من إضافتها إلىٰ نصّ الذخيرة بعد وضعها داخل معقوفتين []. وكذلك عبارة: «بدلالة أنّه» التي جاءت في تمهيد الأصول؛ حيث تجعل ارتباط الدليل بالمدّعىٰ أكثر وضوحاً، ولذلك ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار عدم الاطمئنان بنسخ الذخيرة ـ كان من الأفضل أن يتمّ إضافة هذه العبارة كذلك إلىٰ نصّ الذخيرة بعد وضعها داخل معقوفتين [] كذلك لكي يستقيم النصّ ويصبح مفهوماً.
الأنموذج الثاني: في (الصفحة 158) من الذخيرة (السطر الأوّل والثاني) جاء فيها ما يلي:
«وطريق الكلام عليه أن نبيّن أنّ سكون النفس الحاصل عند العلم لا تجعل مع الظنّ والتبخيت، أو هذا ممّا يعلمه كلّ عاقل من نفسه، فكيف يشبه العلم بالظنّ لولا قلّة الفطنة».
إنّ مراد الشريف المرتضىٰ من العبارة الآنفة الذكر أعلاه هو إثبات أنّ «العلم» لا ينبغي له بأيّ شكل من الأشكال أن يُخلط مع الظّن ويُشتبه به، والسؤال الذي نطرحه هنا هو: ما معنىٰ كلمات «لا تجعل»، «أو» و«يشبه» في هذا الاستدلال؟ وما هو دورها؟ ولمّا لم نحصل من عبارة الذخيرة علىٰ معنىٰ نطمئنّ له فعلينا أن نرجع إلىٰ كتاب تمهيد الأصول وأن نأخذ منه الكلمات المقارنة للعبارة المذكورة في ذلك الكتاب بعين الاعتبار:
«فالوجه أن نبيّن له أنّ سكون النفس الحاصل عند العلم غیر حاصل مع الظنّ والتبخيت، وهذا ممّا يعلمه كلّ عاقل من نفسه، فكيف يشتبه العلم بالظنّ»3
نفس المصدر: 192.
حيث نرىٰ أنّ عبارة الذخيرة تلك قد وقع فيها ثلاث تصحيفات، ممّا جعل العبارة غير مفهومة كلّياً، فالظاهر أنّ عبارة: (لا تحصل) ـ التي يمكن أن نحدسها من عبارة «غیر حاصل» الموجودة في التمهيد ـ هي الصحيحة، وقد تمّ تصحيفها في الذخيرة إلىٰ: «لا تجعل»؛ وكذلك «و» فقد صحّفت إلىٰ «أو»؛ وكذلك كلمة «يُشتبه» فقد صحّفت إلىٰ «يشبه».
إنّ استدلال الشريف المرتضىٰ بناء علىٰ العبارة المنقولة من التمهيد سوف يكون هكذا: (إنّ سكون النفس والطمأنينة الحاصلة للعالم من خلال حصوله علىٰ العلم لا يمكن أن يحصل بالظنّ، وهذا الأمر يمكن لكلّ عاقل أن يدركه بالوجدان، بناء علىٰ هذا فإنّ «العلم» كيف يمكن له أن يُخلط مع «الظنّ» ويشتبه به؟).
فمع وجود الكلمات الخاطئة مثل «لا تجعل»، «أو» و«يشبه» التي جاءت في الذخيرة، هل يمكن أن نتصوّر استدلالاً يمكن استنتاجه من هذه العبارة؟!
الأنموذج الثالث: في نفس تلك الصفحة التي ذكرناها آنفاً، في أسفل العبارة السابقة ببضعة أسطر، نلاحظ عبارة أخرىٰ غير مألوفة؛ إذ من المحتمل لكلّ قارئ نَبِه أن يلتفت إلىٰ النقص والإرباك الموجود فيها:
«الفكر هو التأمّل للشيء المفكّر فيه بينه وبين غيره».
من الواضح أنّ الكلام المذكور جاء في تعريف الفكر، ولكن ما معنىٰ عبارة «للشيء المفكّر فيه بينه وبين غيره»؟ وما هو الارتباط الموجود بين عبارتي: «للشيء المفكّر فيه» و«بينه وبين غيره»؟
فمن خلال ملاحظة العبارة المماثلة لها في تمهيد الأصول: «الفكر هو تأمّل الشيء المفكّر فيه والتمییز بينه وبين غيره»4
نفس المصدر: 192.
يتوضّح لنا أنّ عبارة: «والتمييز» الموجودة في التمهيد قد سقطت من الذخيرة ممّا جعل النصّ غير واضح، ومع الأخذ بنظر الاعتبار كلمة: «والتمييز» وإضافتها إلىٰ العبارة في نصّ الذخيرة سوف يتوضّح كلام الشريف المرتضىٰ ويكون مفهوماً: (إنّ الفكر هو عبارة عن التفكّر في الشيء الذي يكون محلّا ً للتفكّر، ومميّزاً بين الشيء والشيء الآخر).
الأنموذج الرابع: في (الصفحة 159)، حيث نلاحظ عدداً من العبارات العجيبة التي نستبعد أن يكون معناها واضحاً لنفس المحقّق المحترم؛ فإنّ الشريف المرتضىٰ يقول في شأن النظر والفكر:
«ومن شأنه أن يتعلّق بالدليل إذا كان مولّداً للعلم، وبالأمارة إذا كان الظنّ هو الجاهل عنده من سائر النظر إذا ولّد العلم أن يكون الناظر عالماً بالدليل علىٰ الوجه الذي يدلّ ليصحّ في النظر أن يؤيّد العلم...».
تُرىٰ هل يمكن لأحد أن يفهم شيئاً من العبارة التالية: «اذا كان الظنّ هو الجاهل عنده من سائر النظر»؟! أليس الهدف من تحقيق وتصحيح المتون وإعادة طبعها هو أن يقرأها القارئ وأن ويفهم منها شيئاً ما؟
هلمّ بنا لنلقي نظرة علىٰ العبارة المشابهة لها في تمهيد الأصول:
«ومن شأن النظر إذا كان مولّداً للعلم أن يكون واقعاً في دلیل وإذا كان مقتضیاً للظنّ أن يكون متعلّقاً بالأمارة، ومن شأن النظر الذي یولّد العلم أن يكون الناظر عالماً بالدليل علىٰ الوجه الذي يدلّ ليصحّ أن يولّد نظره العلم»5
نفس المصدر: 193.
إنّ التصحيفات التي وقعت في عبارات الذخيرة بعد النقل والاقتباس من التمهيد سوف تكون واضحة جدّاً:
حيث أنّ عبارة: «هو الحاصل» ـ التي يمكن أن نحدسها من عبارة «إذا كان مقتضیاً للظنّ» الموجودة في التمهيد ـ تمّ تصحيفها في الذخيرة إلىٰ «هو الجاهل»؛ وكذلك عبارة: «ومن شأن النظر» تمّ تصحيفها إلىٰ: «من سائر النظر»؛ و«أن يولّد» تمّ تصحيفها إلىٰ: «أن يؤيّد».
فبالرغم من أنّ هذه الأخطاء ناتجة عن نفس نسخ كتاب الذخيرة كما قلنا سابقاً، ولكن كما لاحظنا يمكننا التوصّل لها وإصلاحها من خلال التمعّن في النصوص التي تعتبر من نفس المنظومة الفكرية الكلامية، فمن خلال التصحيحات التي استفدناها من التطبيقات المذكورة أعلاه نرىٰ أنّ عبارات الشريف المرتضىٰ كيف أصبحت مفهومة للقارئ، وخلاصة كلامه: (إنّ النظر والفكر إذا كانا يؤدّيان إلىٰ العلم يجب أن يكونا متعلّقين بالدليل، وإذا كانا يؤدّيان إلىٰ الظنّ يجب أن يكونا متعلّقين بالأمارة). وبعبارة أخرىٰ: (إنّ النظر والتأمّل في الدليل يؤدّيان إلىٰ حصول العلم، وفي الأمارة يؤدّيان إلىٰ حصول الظنّ)؛ كما أنّ هذا النظر والفكر يتسبّبان في (توليد) العلم، فعندما يكون الناظر أو المفكّر عالماً بالدليل، عندها يكون تفكيره هو الذي يتسبّب في توليد العلم.
الأنموذج الخامس: في (الصفحة 162) من الذخيرة (السطر الثالث والرابع)، دار الكلام حول: إنّ العلم يتناسب مع التفكّر والنظر، فيتبعه ويكون مطابقاً له في الزيادة والنقصان؛ وقد جاءت العبارة في الذخيرة حول هذا الموضوع كما يلي:
«وفُسِّر قولنا: (إنّ العلم يقع بحسب النظر)، أنّه يتبعه في الزيادة والنقصان يجري مجرىٰ الوحي في توليد الألم وسائر الأسباب».
بالتأكيد أنّه سوف يخطر في ذهن القارئ هذا السؤال، وهو: تُرىٰ هل أنّ الوحي يكون سبباً لتوليد الألم؟! تُرىٰ ما المراد من هذا المثال؟! لعلّ محقّق هذا الكتاب لم يلتفت إلىٰ هذا السؤال، وإلّا لرأىٰ له حلّا ً، أو علىٰ أقلّ تقدير لوضع بجانبه علامة استفهام.
فلنلاحظ هذه العبارة المثيرة للسؤال كيف جاءت في تمهيد الأصول:
«معنیٰ قولنا: یقع بحسبه؛ إنّه یكثر بكثرته ویقلّ بقلّته فجری مجرىٰ الوهي في توليد الألم وسائر الأسباب»6
نفس المصدر: 194.
وكما هو ملاحظ فإنّ تصحيف كلمة (الوهي) التي هي بمعنىٰ: (الضعف والهزال) إلىٰ (الوحي) تسبّب في إرباك المعنىٰ في العبارة المذكورة في الذخيرة. وبهذا الترتيب يتّضح معنىٰ كلام الشريف المرتضىٰ وهو: (حينما نقول: إنّ العلم يقع بحسب النظر، معناه أنّ العلم يتبع النظر في الكمّية، وهو مثل الهزال والضعف في إيجاد الألم، بحيث كلّما يزداد الهزال والضعف يزداد توليد الألم أكثر فأكثر).
ومن الملفت للنظر هو أنّ الشريف المرتضىٰ أشار إلىٰ هذا المثال مرّة أخرىٰ في نفس ذلك النصّ من الذخيرة، وبعد صفحة منه أي: في (الصفحة 163)، ومن حسن الاتّفاق أنّ المحقّق أورد الوجه الصحيح للعبارة في هذا المكان:
«... لأنّ السبب إذا لم يختصّ بجهة وجاز وجوده مع سببه، فإنّه يولّده في حال وجوده، كالمجاورات [مع] التأليف، والوهي مع الألم».
ربّما يطرأ هذا السؤال للقارئ الكريم: تُرىٰ هل كان يقع المحقّق الخبير بقراءة النصّ في مثل هذه الاشتباهات إذا قرأ العبارات قراءة دقيقة ولو لمرّة واحدة؟ بالتأكيد لا!
الأنموذج السادس: في (الصفحة 169) من الذخيرة (الفقرة الثانية، السطر الرابع) دار البحث حول وجوب النظر في طريق معرفة الباري عزّ وجلّ للخوف من الضرر، ومن الممكن أنّ البعض لا يعتريهم مثل هذا الخوف؛ وذلك لما يشوب أفكارهم من شبهات، وبالنتيجة لم يثبت لديهم وجوب النظر. فالعبارة التي جاءت في الذخيرة هي كما يلي:
«ولا يمنع مع ذلك أن يدخل بعضهم علىٰ نفسه شبهة فيزول هذا الخوف، فلا يعلم وجوب النظر عليه؛ لأنّ العلم بوجوب هذا النظر إنّما هو علم بوجوب ما له صفة مخصوصة يجوز أن يعترض شبهة فيها، ويجري ذلك مجرىٰ إدخال الخوارج علىٰ أنفسهم شبهة في مثل مخالفيهم الذي هو ظلم علىٰ الحقيقة، حتّىٰ اعتقدوا حسنه لمّا جهلوا صفته المخصوصة».
العبارة بنحو عامّ واضحة سوىٰ ذلك القسم من المثال الذي ذكره الشريف المرتضىٰ في قوله: «شبهة في مثل مخالفيهم» فهو غير مفهوم.
فلنرجع إلىٰ التمهيد مرّة أخرىٰ أيضاً لنرىٰ العبارة المشابهة لها لدرء الغموض في عبارة الذخيرة وبذلك سوف يتوضّح التصحيف الذي وقع في عبارة الذخيرة:
«... وجریٰ ذلك مجریٰ إدخال الخوارج علىٰ نفوسهم شبهة في قتل مَن خالفهم الذي هو ظلم علیٰ الحقیقة»7
نفس المصدر: 198.
من الواضح أنّ تصحيف «قتل» إلىٰ «مثل» أدّىٰ إلىٰ غموض المعنىٰ في الذخيرة. والآن يتّضح لنا مراد الشريف المرتضىٰ من هذا المثال، حيث شبّه الشريف المرتضىٰ هنا الشبهة المذكورة في بحث النظر بالشبهة التي حصلت للخوارج في ما يخصّ قتل مخالفيهم، حيث كانوا يعتبرون ما يرتكبونه من ظلم حقيقي أمراً حسناً.
الأنموذج السابع: في (السطر الأخير من الصفحة 174) من الذخيرة وردت عبارة في غاية الغموض بهذا الشكل:
«فهذا علم من كون في عقل كلّ عاقل».
مسلّماً أنّ هذه العبارة يكفيها شيء من التدقيق والتركيز لكي نصل إلىٰ الصياغة الصحيحة لها، ولاحاجة لنا حتّىٰ إلىٰ مراجعة تمهيد الأصول أو سائر النصوص المشابهة: «فهذا علم مركوز في عقل كلّ عاقل» إنّ مثل هذه العبارة في مثل هذه الأبحاث والنصوص معروفة ومتداولة، وإنّ الوقوع في هذا النوع من الالتباس والاشتباه في ضبطها يحكي عن عدم دقّة المحقّق أو عدم معرفته بمثل هذه النصوص. مع كلّ ذلك، ومن أجل أن تطمئنّ قلوبنا، سوف ننقل العبارة المماثلة لها الموجودة في التمهيد: «... فذلك مركوز في عقل كلّ عاقل»8
نفس المصدر: 201.
الأنموذج الثامن: في (الفقرة الخامسة في الصفحة 177) من الذخيرة توجد عبارة أخرىٰ مربكة ملفتة للنظر:
«وأجود من كلّ شيء قيل في مثال هذا الوجه: أن يأتي الخاطر المعارض فيقول له: لا تأمن إن نظرت أن تقضي بك النظر، إلّا أنّه لا صانع لك تخاف من جهته عقلاً ولا ترجو ثواباً».
أستبعد أن يكون حتّىٰ الشريف المرتضىٰ قادراً علىٰ توضيح هذه العبارة وهي علىٰ هذا الحال من القراءة، أو بعبارة أخرىٰ (من التصحيف)!
والآن فلينظر القارئ الكريم إلىٰ العبارة المشابهة لها من التمهيد ليتبيّن له الغموض الموجود فيها:
«أقوی ما قيل فيه: أن يأتي الخاطر المعارض فيقول له: لا تأمن إن نظرت أن یفضي بك النظر إلیٰ أنّه لا صانع لك تخاف من جهته عقاباً أو ترجوا ثواباً»9
نفس المصدر: 202.
بناء علىٰ ما جاء في التمهيد سوف تتبيّن الاشتباهات الموجودة في ضبط الذخيرة: فلابدّ أن تحلّ عبارة (أن يفضي) محلّ (أن تقضي) في الذخيرة لكي يستقيم المعنىٰ ـ وإن كانت عبارة (أن تقضي) أيضاً يمكن أن يستقيم معنىٰ العبارة معها لكن بشرط أن تصبح (أن يقضي) ـ وأن لا تفصل الفارزة بين الجملتين المذكورتين، أي: لابدّ من حذف الفارزة الموجودة بعد النظر؛ وكلمة (إلّا) أيضاً لابدّ من تصحيحها واستبدالها بكلمة (إلى) (لأنّ فعل يفضي يتعدّىٰ بحرف الجرّ: إلى)؛ وعبارة «عقلاً ولا ترجو» أيضاً التي صحّفت بعبارة «عقاباً أو ترجو» لابدّ من تصحيحها بها.
ومع هذه الإصلاحات سوف يتّضح معنىٰ كلام علم الهدىٰ بشكل جيّد.
الأنموذج التاسع: في نهاية (الصفحة 181) في الذخيرة جاء ما يلي:
«فإن قيل: خبّرنا عمّن عصىٰ وقد كلّف المعارف فلم يفعل ما وجب عليه الابتداء به من النظر مثلاً في إثبات الأعراض، أتقولون إنّه مع المعصية يكلّف النظر في الأوقات المستقبلة أو يكون غير مكلّف، فإن خرج عن التكليف بمعصية فكيف يخرج عنه مع كمال عقله وتكامل شروطه. وإن جاز هذا في بعض العقلاء ـ وهو من عصىٰ ـ داخل بالنظر جاز في جميعهم. وإن قلتم: لا يخرج عن التكليف العقلي مع كمال عقله لكنّه يخرج من تكليف تحديد النظر ثانياً إذا عصىٰ فيه أو لا».
في العبارة المذكورة أعلاه إشارة إلىٰ السؤال التالي: إذا تخلّىٰ شخص عن تكليف وجوب النظر والتفكّر في طريق معرفة الباري عزّ وجلّ ولم يوفّر مقدّماته، تُرىٰ مع وجود هذا العصيان فهل يبقىٰ الشخص مكلّفاً بالنظر والتفكّر في هذا المجال في الأزمنة التالية أم لا؟ فإنّ معنىٰ العبارة إلىٰ هنا واضح، ولكن ما معنىٰ العبارة الأخيرة في قوله: «وإن جاز هذا في بعض العقلاء ـ وهو مَن عصىٰ ـ داخل بالنظر جاز في جميعهم» فهل يمكن أن يُفهم ويُستنتج منها شيء؟ فإنّ هذه الكلمات أشبه ما تكون بهذيان مَن أصابته الحمّىٰ، ولا يمكن أن نتصوّر أنّها عبارة كلامية تتناسب مع التعاليم الاعتقادية الموجّهة للمخاطبين.
والآن من أجل أن نوضّح هذه العبارة المربكة هلمّ بنا نلقي نظرة علىٰ كلمة كلمة من عبارات الشيخ الطوسي المقتبسة من عبارات الشريف المرتضىٰ؛ فقد ذكر شيخ الطائفة في تمهيد الأصول ما يلي:
«فإن قيل: خبّرونا عمّن عصىٰ وقد كلّف المعارف فلم يفعل ما وجب عليه الابتداء به من النظر مثلاً في إثبات الأعراض، هل يكلّف النظر في الأوقات المستقبلة أو لا يكلّف؟ فإن خرج عن التكليف بمعصيته فذلك لا یجوز مع كمال عقله وتكامل شروطه؛ ولئن جاز هذا فيمَن عصىٰ من العقلاء وأخلّ بالنظر لجاز في جميعهم، وإن قلتم: إنّه لا يخرج عن التكليف العقلي مع كمال العقل لكنّه يخرج عن تكليف تجديد النظر ثانياً إذا عصىٰ فيه أوّلاً»10
نفس المصدر: 204.
يرىٰ القارئ الكريم أنّ العبارات المذكورة في التمهيد ترشدنا إلىٰ ثلاث تصحيفات وقعت في العبارات المنقولة من الذخيرة: «وأخلّ» تم تصحيفها إلىٰ «داخل»، «تجديد» تمّ ضبطها بالخطأ إلىٰ «تحديد»، وبقراءة غير صحيحة تمّ تبديل «أوّلاً» إلىٰ «أو لا». هذا وإنّ التصحيح الخاطئ لعبارة «وان جاز هذا في بعض العقلاء ـ وهو من عصىٰ ـ داخل بالنظر جاز في جميعهم» لابدّ من تصحيحها بالنحوالتالي: «وان جاز هذا في بعض العقلاء ـ وهو من عصىٰ وأخلّ بالنظر ـ جاز في جميعهم»، ومعنىٰ ذلك أنّ عبارة «وأخلّ بالنظر» من حيث المعنىٰ هي تفسير لعبارة «وهو من عصىٰ» ولذلك كان لابدّ من وضعها بعدها بين خطّي الجملة العارضة. وفضلاً عن ذلك فإنّ ضبط «بمعصيته» في تمهيد الأصول من حيث المعنىٰ يبدو أفضل من ضبط «بمعصية» الوارد في الذخيرة، بل وأصحّ وأوضح، فأنّ مراده هو:
«فإن قيل: بأنّ المكلّف بوجوب النظر في معرفة الباري الذي عصىٰ ولم يفعل، سوف يسقط عنه التكليف بوجوب النظر مرّة أخرىٰ في الأزمان اللاحقة بسبب عصيانه الأوّلي. فإنّ مثل هذا الحكم غير مقبول؛ لأنّه مع وجود كمال العقل وتوفّر شرائط التكليف بوجوب النظر لايمكن تصوّر سقوط التكليف عنه. وإذا جاز ذلك في حقّ بعض العقلاء ـ ممّن عصىٰ وقصّر في النظر والتفكير في معرفة الباري ـ فإنّنا لابدّ وأن نقول بجوازه كذلك في بقيّة العقلاء. وإن قلتم: إنّه لا يخرج عن التكليف العقلي مع كمال العقل لكنّه يخرج عن تكليف تجديد النظر ثانياً إذا عصىٰ فيه أوّلاً...».
وبذلك يكون كلام الشريف المرتضىٰ بالتصحيحات المذكورة ذا معنىٰ، حيث تبيّنت من خلال ذلك عقيدته بوضوح.
الأنموذج العاشر: الأنموذج الأخير الذي نذكره هنا له صلة بالعبارة التي وردت في بداية الذخيرة في (الصفحة 179):
«وكقولهم: لا تأمن أنّك إن عرفت الله تعالىٰ عاقبك، وإن لم تعرفه لم يعاقبك. وهذه الأمارة عليه في العقل، فلا يعارض ما عليه من الأمارات».
والسؤال هنا هو: ما المقصود بيانه من عبارة «وهذه الأمارة عليه في العقل»؟
فلدرء الغموض عنها علينا أن نلقي نظرة علىٰ النصّ المماثل للعبارة المعنية بالبحث في تمهيد الأصول:
«وكذلك إن قال: إنّه لا تأمن إن عرفت الله عاقبك وإن لم تعرفه لم یعاقبك. وهذا لا أمارة علیه»11
نفس المصدر: 203.
فمن الواضح للقارئ الكريم أنّ تصحيف «لا أمارة» إلىٰ «الأمارة» أدّىٰ إلىٰ ذلك الغموض في عبارة الذخيرة. وليس من الصعب الالتفات إلىٰ مثل هذا الخطأ، فبمجرّد التدقيق بالعبارة من قبل المحقّق المحترم سوف يتوضّح الخطأ، ولا حاجة حتّىٰ إلىٰ الرجوع إلىٰ عبارة التمهيد، وذلك من خلال مراجعة العبارة التي تليها في نفس الجملة؛ فقد جاءت بعد عبارة: «وهذه الأمارة عليه في العقل» العبارة التالية: «فلا يعارض ما عليه من الأمارات» أي: إنّه لا يتعارض مع الشيء الذي توجد عليه أمارة، وبالطبع أنّ الشيء الذي توجد عليه أمارة يتعارض مع الشيء الذي ليس عليه أمارة. وعلىٰ هذا الأساس فإنّ عبارة الذخيرة أيضاً ـ كما تمّ تبيينه ـ لابدّ وأن تصحّح إلىٰ «وهذا لا أمارة عليه في العقل» بدلاً من «وهذه الأمارة عليه في العقل».
وبهذا التصحيح سوف تكون عبارة الشريف المرتضىٰ كاملة ومستقيمة المعنىٰ.
وما ذكرناه إنّما هو غيض من فيض من التصحيفات والتحريفات والأخطاء التي عثرنا عليها في ثلاثين صفحة ـ فقط ـ تقريباً من طبعة كتاب الذخيرة هذه، ولا أرغب في الإطالة أكثر من ذلك في سرد الأخطاء ممّا قد يتسبّب الملل للقارئ الكريم ممّا جعلني أستعرض بعض الأخطاء الأخرىٰ الموجودة في تلك الصفحات علىٰ شكل فهرست في جدول التالي:
الكلمة أو العبارة الخاطئة في كتاب الذخیرة للسیّد المرتضیٰ | الكلمة أو العبارة الصحيحة في تمهید الأصول للشیخ الطوسي |
ص ١٥٤ الفقرة الثالثة السطر الثاني: يحدّ | ص ۱۹۰ السطر الثاني عشر: يجد |
ص ١٥٦ الفقرة الرابعة السطر الثاني: المنتبه في نومه | ص ١٩١ السطر التاسع: المنتبه من نومه |
ص ١٥٧ الفقرة الثانية السطر الثاني: كمشاركة | ص ۱۹۱ السطر السادس عشر : بمشاركة |
ص ١٥٩ الفقرة الخامسة السطر الأوّل: الجهل الواقع على شبهة | ص ۱۹۲ السطر الثالث من الأخير: الجهل الواقع عن شبهة |
ص ١٦٢ السطر الأول: لا تصرف بذلك عن فعل العلم | ص ١٩٤ السطر العاشر: لانصرف بذلك عن فعل العلم |
ص ١٦٢ الفقرة الثالثة السطر الرابع: مفارق | ص ١٩٤ السطر الخامس عشر: ففارق |
ص ١٦٣ الفقرة الثانية السطر الثاني: لأنّ السبب إذا لم يختص بجهة وجاز وجوده مع سببه | ص ١٩٥ السطر الثاني: لأن السبب إذا لم يختص بجهة وجاز وجوده مع مسببه |
ص ١٦٦ السطر الأول: ولا يلزم على هذا السهو، لأنا نقدر عليه | ص ١٩٧ السطر الثاني: ولا ينتقض ذلك بالسهو وإنا لا نقدر عليه |
ص ١٦٨ الفقرة الثالثة السطر الأوّل: العلم المتصل بوجوب نظر معين | ص ۱۹۸ السطر العاشر: العلم المفصل بوجوب نظر معين |
ص ١٦٨ الفقرة الثالثة السطر الخامس: إن لم يسبق المحدثات فهو محدث | لم ترد هذه العبارة في پررنگ التمهيد پررنگ ولكن وجهها الصحيح كما يلي): إن ما لم يسبق المحدثات فهو محدث |
ص۱۷۲ الفقرة السادسة السطر الثاني: أنه كلام يفعله الله تعالى داخل سمع المكلف ويجب تقرّب من صدره | ص ۲۰۰ السطر الخامس: أنه كلام يفعله الله تعالى داخل سمع المكلف وحيث يقرب من صدره |
ص ١٧٤ الفقرة الثالثة السطر الثاني: يتعلّق بلحوق العقاب بالمعاصي | ص ۲۰۰ السطر الثاني من الأخير: يتعلق بلحوق العقاب بالعاصي |
ص ١٧٦ الفقرة الثانية السطر الأول: من هدّد غيره على أكل كلّ طعام بعينه بالقتل | ص ۲۰۱ السطر السادس عشر من هدّد غيره على أكل طعام يعنيه بالقتل |
ص ۱۸۲ الفقرة الأخيرة السطر الثالث: وكيف يكلّف نظر العرض فيه والمقتضي لحسنه المعرفة | ص ٢٠٥ السطر الثامن: وكيف يكلف نظراً الغرض فيه المعرفة |
ص ۱۸۳ الفقرة الثانية السطر السادس: فلا وجه لتكليفه استئناف نظر لا يؤدي إلى معرفة وغرض فيه | ص ٢٠٥ السطر السادس من الأخير: فلا وجه لتكليفه استئناف نظر لأنه يؤدي إلى معرفته ولا غرض فيه |
ص ١٨٥ السطر الأخير: وقد يقوم في كثير من المواضع الظنّ مقام العلم إذا لم يكن العلم | ص ۲۰۷ السطر الأخير: وقد يقوم الظنّ مقام العلم في كثير من المواضع إذا لم يمكن العلم |
إنّ الأخطاء التي ذكرناها آنفاً هي عبارة عن الأخطاء والتصحيفات التي جاءت في الكلمات والعبارات فقط، وإذا كان لابدّ من إضافة الأخطاء الأخرىٰ في هذه الطبعة من الذخيرة لازداد وتفاقم عددها إلىٰ أكثر ممّا بيّنّاه؛ فليتأمّل القارئ الكريم قليلاً في أنّ ما حصلنا عليه من الأخطاء في تصحيح ثلاثين صفحة فقط هو هذا الكمّ من الأخطاء، فما بالنا إذا سعينا للبحث عنها في جميع الكتاب، تُرىٰ كم سيبلغ مقدار وحجم تلك الأخطاء؟
إنّ رداءة النسخ ونقصانها يمكن أن يكون عذراً ـ إلىٰ حدّ ما وفي بعض الأحيان فقط ـ في تبرير وجود الأخطاء في تحقيق وتصحيح الكتاب، إلّا أنّ واحدة من أهمّ الخصائص والمميّزات التي يجب أن يمتاز بها المحقّق الخبير والمتمرّس هو فراسته في تمييز التصحيفات الواردة في النسخ؛ ففي الواقع أنّ مهامّ المحقّق لا تقتصر علىٰ مقابلة النسخ وتنضيد كلماتها الواردة فيها فحسب، بل إنّ معرفة التصحيفات الواردة في النصّ والتدقيق فيها هي الأخرىٰ أيضاً من المسؤوليّات والمهامّ الملقاة علىٰ عاتقه!
خلاصة الكلام: إنّ أهل الخبرة والمهتمّين بالنصوص الكلامية لمدرسة بغداد علىٰ اطّلاع كامل علىٰ مدىٰ الصعوبات والمعضلات التي تواجه المحقّقين في تحقيق وتصحيح تلك النصوص، ولكن بالرغم من ذلك يمكننا من خلال بذل المزيد من التدقيق وعدم التسرّع والتأنّي في معالجة تلك النصوص أن نقلّل إلىٰ حدٍّ كبير من الأخطاء والنواقص عند تصحيح تلك النصوص. إنّ محقّقي النسخ إذا التزموا بشرط واحد فقط ـ وهو من ضروريّات التصحيح ـ وهو أن يلتزموا بتقديم نصّ فيه من المقوّمات العلمية ما يكفي لتقويمه، حينها سوف يمكن تلافي الكثير من الأخطاء التي يمكن أن تقع في التصحيح ويتمّ حلّ الكثير من الاشتباهات.
وللأسف الشديد لابدّ من الاعتراف بأنّ الكثير من الاشتباهات والإهمال والتقصير الذي ذكرنا نماذج منه في كتاب الذخيرة توجد أمثاله في الكثير من النصوص العلمية الأخرىٰ، بل يوجد أحياناً من الأخطاء فيها ما يثير الدهشة. وفي الحقيقة إنّ الكثير من كتبنا ومخطوطاتنا الإسلامية التي حُقّقت ونشرت حتّىٰ الآن قد تمّ تحقيقها وتصحيحها بطريقة غير صحيحة وغير علمية، ممّا أدّىٰ إلىٰ تضييع حقّ ذلك الكتاب أثراً وعلماً. والآن علينا أن نوجّه للمحقّقين والمسؤولين عن الأبحاث في مجال العلوم الإسلامية وخاصّة علم الكلام السؤال التالي: نظراً إلىٰ رداءة الحالة الموجودة في تحقيق وتصحيح ونشر التراث العلمي، تُرىٰ هل من الممكن أن نعتبر التحقيقات التي قامت بها معاهدكم ومحقّقوكم حتّىٰ اليوم ـ التي تعتمد وتعوِّل أغلبها علىٰ النصوص التي لا يمكن الاعتماد عليها والتي تمّ تحقيقها وطباعتها بشكل خاطئ ومربك ـ بأن تكون تحقيقات متقنة ويعوّل عليها وتحظىٰ بالكفاءة اللازمة والكافية؟
لا ننوي أبداً التشكيك في الجهود والنتائج العلمية القيّمة لباحثينا ومعاهدنا العلمية، بل نحاول فقط أن نعبّر عن ضرورة الانتباه إلىٰ التصحيح الدقيق والعلمي للنصوص الإسلامية، وأن نعطيها الأولوية في التخطيط البحثي والعلمي. تُرىٰ أليس التصحيح والنشر الدقيق للمصادر الأولىٰ هي مقدّمة لازمة وضرورية للدراسات والتحقيقات التي تعوّل علىٰ تلك المصادر؟ علماً بأنّ التحقيق الدقيق والنشر اللائق للنصوص العلمية في أكثر المراكز الأكاديمية للشعوب المترقّية مرجّح ومقدّم علىٰ سائر الدراسات الأخرىٰ، فلماذا إذن لا تكون معاهدنا العلمية كذلك؟
مِسك ختام الكلام هو الحديث الشريف المنقول عن الرسول الأعظم ’ حيث قال: «... الله تعالىٰ يُحِبّ عَبداً إذا عَمِل عملاً فأحكَمَه»12
علل الشرائع 1/310.
المصادر
1ـ تمهيد الأصول: الشيخ الطوسي، تحقيق: الدكتور عبد المحسن مشكوة الديني، انتشارات جامعة طهران، 1362هـ ش، طهران.
2ـ الذخيرة في علم الكلام: الشريف المرتضى، تحقيق: السيّد أحمد الحسيني الإشكوري مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة إلىٰ جامعة المدرّسین في الحوزة العلمیة ، 1411 هـ ق، قم.
3ـ علل الشرائع: الشيخ الصدوق، تقديم: السيّد محمّد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدرية، 1385 هـ ق، النجف الأشرف.
- الذخیرة: 63ـ64. لايخفىٰ أنّه تمّت كتابة هاتين النسختين من علىٰ نسخة أصل واحدة، وبالتالي لا يمكن اعتبارهما نسختين مستقلّتين..
- تمهید الأصول: 190.
- نفس المصدر: 192.
- نفس المصدر: 192.
- نفس المصدر: 193.
- نفس المصدر: 194.
- نفس المصدر: 198.
- نفس المصدر: 201.
- نفس المصدر: 202.
- نفس المصدر: 204.
- نفس المصدر: 203.
- علل الشرائع 1/310.
دوشنبه ۱۲ خرداد ۱۴۰۴ ساعت ۱۰:۰۱
نمایش ایمیل به مخاطبین
نمایش نظر در سایت
۲) از انتشار نظراتی که فاقد محتوا بوده و صرفا انعکاس واکنشهای احساسی باشد جلوگیری خواهد شد .
۳) لطفا جهت بوجود نیامدن مسائل حقوقی از نوشتن نام مسئولین و شخصیت ها تحت هر شرایطی خودداری نمائید .
۴) لطفا از نوشتن نظرات خود به صورت حروف لاتین (فینگلیش) خودداری نمایید .